كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فمن لطفه خلقه الجنين في بطن أمه في ظلمات ثلاث وحفظه فيها وتغذيته بواسطة السرة إلى أن ينفصل فيستقل بالتناول بالفم ثم إلهامه إياه عند الانفصال التقام الثدي وامتصاصه ولو في ظلام الليل من غير تعليم ومشاهدة بل يتفقأ البيضة عن الفرخ وقد ألهمه التقاط الحب في الحال ثم تأخير خلق السن عن أول الخلقة إلى وقت الحاجة للاستغناء في الاغتذاء باللبن عن السن ثم إنباته السن بعد ذلك عند الحاجة إلى طحن الطعام ثم تقسيم الأسنان إلى عريضة للطحن وإلى أنياب للكسر وإلى ثنايا حادة الأطراف للقطع ثم استعمال اللسان الذي الغرض الأظهر منه النطق في رد الطعام إلى المطحن كالمجرفة ولو ذكر لطفه في تيسير لقمة يتناولها العبد من غير كلفة يتجشمها وقد تعاون على إصلاحها خلق لا يحصى عددهم من مصلح الأرض وزارعها وساقيها وحاصدها ومنقيها وطاحنها وعاجنها وخابزها إلى غير ذلك لكان لا يستوفي شرحه.
وعلى الجملة فهو من حيث دبر الأمور حكم ومن حيث أوجدها جواد ومن حيث رتبها مصور ومن حيث وضع كل شيء موضعه عدل ومن حيث لم يترك فيها دقائق وجوه الرفق لطيف ولن يعرف حقيقة هذه الأسماء من لم يعرف حقيقة هذه الأفعال.
ومن لطفه بعباده أنه أعطاهم فوق الكفاية وكلفهم دون الطاقة ومن لطفه أنه يسر لهم الوصول إلى سعادة الأبد بسعي خفيف في مدة قصيرة وهي العمر فإنه لا نسبة لها بالإضافة إلى الأبد ومن لطفه إخراج اللبن الصافي من بين الفرث والدم وإخراج الجواهر النفيسة من الأحجار الصلبة وإخراج العسل من النحل والإبريسم من الدود والدر من الصدف وأعجب من ذلك خلقه من النطفة القذرة مستودعا لمعرفته وحاملا لأمانته ومشاهدا لملكوت سمواته وهذا أيضا لا يمكن إحصاؤه.
تنبيه:
حظ العبد من هذا الوصف الرفق بعباد الله عز وجل والتلطف بهم في الدعوة إلى الله تعالى والهداية إلى سعادة الآخرة من غير إزراء وعنف ومن غير تعصب وخصام وأحسن وجوه اللطف فيه الجذب إلى قبول الحق بالشمائل والسيرة المرضية والأعمال الصالحة فإنها أوقع وألطف من الألفاظ المزينة.
الخبير هو الذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة فلا يجري في الملك والملكوت شيء ولا تتحرك ذرة ولا تسكن ولا تضطرب نفس ولا تطمئن إلا ويكون عنده خبرها وهو بمعنى العليم ولكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة ويسمى صاحبها خبيرا.
تنبيه:
حظ العبد من ذلك أن يكون خبيرا بما يجري في عالمه وعالمه قلبه وبدنه والخفايا التي يتصف القلب بها من الغش والخيانة والتطواف حول العاجلة وإضمار الشر وإظهار الخير والتجمل بإظهار الإخلاص مع الإفلاس عنه لا يعرفها إلا ذو خبرة بالغة قد خبر نفسه ومارسها وعرف مكرها وتلبيسها وخدعها فحاذرها وتشمر لمعاداتها وأخذ الحذر منها فذلك من العباد جدير بأن يسمى خبيرا.
الحليم هو الذي يشاهد معصية العصاة ويرى مخالفة الأمر ثم لا يستفزه غضب ولا يعتريه غيظ ولا يحمله على المسارعة إلى الانتقام مع غاية الاقتدار عجلة وطيش كما قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة} 16 سورة النحل الآية 61.
تنبيه:
حظ العبد من وصف الحليم ظاهر فالحلم من محاسن خصال العباد وذلك مستغن عن الشرح والإطناب.
العظيم: اعلم أن اسم العظيم في أول الوضع إنما أطلق على الأجسام يقال هذا جسم عظيم وهذا الجسم أعظم من ذلك الجسم إذا كان امتداد مساحته في الطول والعرض والعمق أكثر منه ثم هو ينقسم إلى عظيم يملأ العين ويأخذ منها مأخذا وإلى ما لا يتصور أن يحيط البصر بجميع أطرافه كالأرض والسماء فإن الفيل عظيم ولكن البصر قد يحيط بأطرافه فهو عظيم بالإضافة إلى ما دونه وأما الأرض فلا يتصور أن يحيط البصر بأطرافها وكذا السماء فذلك هو العظيم المطلق في مدركات البصر.
فافهم أن في مدركات البصائر أيضا تفاوتا فمنها ما تحيط العقول بكنه حقيقته ومنها ما تقصر العقول عنه وما تقصر العقول عنه ينقسم إلى ما يتصور أن يحيط به بعض العقول وإن قصر عنه أكثرها وإلى ما لا يتصور أن يحيط العقل أصلا بكنه حقيقته وذلك هو العظيم المطلق الذي جاوز جميع حدود العقول حتى لا تتصور الإحاطة بكنهه وذلك هو الله تعالى وقد سبق بيان ذلك في الفن الأول.
تنبيه:
العظيم من العباد الأنبياء والعلماء الذين إذا عرف العاقل شيئا من صفاتهم امتلأ بالهيبة صدره وصار مستو في بالهيبة قلبه حتى لا يبقى فيه متسع.
فالنبي عظيم في حق أمته والشيخفى حق مريده والأستاذ في حق تلميذه إذ يقصر عقله عن الإحاطة بكنه صفاته فإن ساواه أو جاوزه لم يكن عظيما بالإضافة إليه وكل عظيم يفرض غير الله عز وجل فهو ناقص وليس بعظيم مطلق لأنه إنما يظهر بالإضافة إلى شيء دون شيء سوى عظمة الله تعالى فإنه العظيم المطلق لا بطريق الإضافة.
الغفور بمعنى الغفار ولكنه بشيء ينبئ عن نوع مبالغة لا ينبئ عنها الغفار فإن الغفار مبالغة في المغفرة بالإضافة إلى مغفرة متكررة مرة بعد أخرى فالفعال ينبئ عن كثرة الفعل والفعول ينبئ عن جودته وكماله وشموله فهو غفور بمعنى أنه تام المغفرة والغفران كاملها حتى يبلغ أقصى درجات المغفرة والكلام عليه قد سبق.
الشكور هو الذي يجازي بيسير الطاعات كثير الدرجات ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعيما في الآخرة غير محدود ومن جازى الحسنة بأضعافها يقال إنه شكر تلك الحسنة ومن أثنى على المحسن أيضا يقال إنه شكر فإن نظرت إلى معنى الزيادة في المجازاة لم يكن الشكور المطلق إلا الله عز وجل لأن زياداته في المجازاة غير محصورة ولا محدودة فإن نعيم الجنة لا آخر له والله سبحانه وتعالى يقول: {كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية} 69 سورة الحاقة الآية 24 وإن نظرت إلى معنى الثناء فثناء كل مثن على فعل غيره والرب عز وجل إذا أثنى على أعمال عباده فقد أثنى على فعل نفسه لأن أعمالهم من خلقه فإن كان الذي أعطى فأثنى شكورا فالذي أعطى وأثنى على المعطي أحق بأن يكون شكورا وثناء الله تعالى على عباده كقوله: {والذاكرين الله كثيرا والذاكرات} سورة الأحزاب الآية 35 وكقوله: {نعم العبد إنه أواب} 38 سورة ص الآية 30 وما يجري مجراه فكل ذلك عطية منه.
تنبيه:
العبد يتصور أن يكون شاكرا في حق عبد آخر مرة بالثناء عليه بإحسانه إليه وأخرى بمجازاته بأكثر مما صنعه إليه وذلك من الخصال الحميدة قال رسول الله من لم يشكر الناس لم يشكر الله وأما شكره لله عز وجل فلا يكون إلا بنوع من المجاز والتوسع فإنه إن أثنى فثناؤه قاصر لأنه لا يحصي ثناء عليه وإن أطاع فطاعته نعمة أخرى من الله عليه بل عين شكره نعمة أخرى وراء النعمة المشكورة وإنما أحسن وجوه الشكر لنعم الله عز وجل أن لا يستعملها في معاصيه بل في طاعته وذلك أيضا بتوفيق الله وتيسيره في كون العبد شاكرا لربه.
وتصور ذلك كلام دقيق ذكرناه في كتاب الشكر من كتاب إحياء علوم الدين فليطلب منه فإن هذا الكتاب لا يحتمله.
العلي هو الذي لا رتبة فوق رتبته وجميع المراتب منحطة عنه وذلك لأن العلي مشتق من العلو والعلو مأخوذ من العلو المقابل للسفل وذلك إما في درجات محسوسة كالدرج والمراقي وجميع الأجسام الموضوعة بعضها فوق بعض وإما في الرتب المعقولة للموجودات المرتبة نوعا من الترتيب العقلي فكل ما له الفوقية في المكان فله العلو المكاني وكل ما له الفوقية في الرتبة فله العلو في الرتبة والتدريجات العقلية مفهومة كالتدريجات الحسية ومثال الدرجات العقلية هو التفاوت الذي بين السبب والمسبب والعلة والمعلول والفاعل والقابل والكامل والناقص فإذا قدرت شيئا فهو سبب لشيء ثان وذلك الثاني سبب لثالث والثالث لرابع إلى عشر درجات مثلا فالعاشر واقع في الرتبة الأخيرة فهو الأسفل الأدنى والأول واقع في الدرجة الأولى من السببية فهو الأعلى ويكون الأول فوق الثاني فوقية بالمعنى لا بالمكان والعلو عبارة عن الفوقية.
فإذا فهمت معنى التدريج العقلي فاعلم أن الموجودات لا يمكن قسمتها إلى درجات متفاوتة في العقل إلا ويكون الحق سبحانه وتعالى في الدرجة العليا من درجات أقسامها حتى لا يتصور أن يكون فوقه درجة وذلك هو العلي المطلق وكل ما سواه فيكون عليا بالإضافة إلى ما دونه ويكون دنيا أو سافلا بالإضافة إلى ما فوقه.
ومثال قسمة العقل أن الموجودات تنقسم إلى ما هو سبب وإلى ما هو مسبب والسبب فوق المسبب فوقية بالرتبة فالفوقية المطلقة ليست إلا لمسبب الأسباب وكذلك ينقسم الموجود إلى ميت وحي والحي ينقسم إلى ما ليس له إلا الإدراك الحسي وهو البهيمة وإلى ما له مع الإدراك الحسي الإدراك العقلي والذي له الإدراك العقلي ينقسم إلى ما يعارضه في معلوماته الشهوة والغضب وهو الإنسان وإلى ما يسلم إدراكه عن معارضة المكدرات والذي يسلم ينقسم إلى ما يمكن أن يبتلى به ولكن رزق السلامة كالملائكة وإلى ما يستحيل ذلك في حقه وهو الله سبحانه وتعالى وليس يخفى عليك في هذا التقسيم والتدريج أن الملك فوق الإنسان والإنسان فوق البهيمة وأن الله عز وجل فوق الكل فهو العلي المطلق فإنه الحي المحيي العالم المطلق الخالق لعلوم العلماء المنزه المقدس عن جميع أنواع النقص فقد وقع الميت في الدرجة السفلى من درجات الكمال ولم يقع في الطرف الآخر إلا الله تعالى فهكذا ينبغي أن تفهم فوقيته وعلوه.
فإن هذه الأسامي وضعت أولا بالإضافة إلى إدراك البصر وهو درجة العوام ثم لما تنبه الخواص لإدراك البصائر ووجدوا بينها وبين الأبصار موازنات استعاروا منها الألفاظ المطلقة وفهمها الخواص وأدركوها وأنكرها العوام الذين لم يجاوز إدراكهم عن الحواس التي هي رتبة البهائم فلم يفهموا عظمة إلا بالمساحة ولا علوا إلا بالمكان ولا فوقية إلا به فإذا فهمت هذا فقد فهمت معنى كونه فوق العرش لأن العرش أعظم الأجسام وهو فوق جميع الأجسام والموجود المنزه عن التحديد والتقدر بحدود الأجسام ومقاديرها فوق الأجسام كلها في الرتبة ولكن خص العرش بالذكر لأنه فوق جميع الأجسام فلما كان فوقها كان فوق جميعها وهو كقول القائل الخليفة فوق السلطان تنبيها به على أنه إذا كان فوقه كان فوق جميع الناس الذين هم دون السلطان.
والعجب من الحشوي الذي لا يفهم من فوق إلا المكان ومع ذلك إذا سئل عن شخصين من الأكابر وقيل له كيف يجلسان في الصدر والمحافل فيقول هذا يجلس فوق ذاك وهو يعلم أنه ليس يجلس إلا بجنبه وإنما يكون جالسا فوقه لو جلس على رأسه أو مكان مبني فوق رأسه ولو قيل له كذبت ما جلس فوقه ولا تحته ولكنه جلس بجنبه اشمأزت نفسه من هذا الإنكار وقال إنما أعني به فوقية الرتبة والقرب من الصدر فإن الأقرب إلى الصدر الذي هو المنتهى فوق بالإضافة إلى الأبعد ثم لا يفهم من هذا أن كل ترتيب له طرفان يجوز أن يطلق على أحد طرفيه اسم الفوق والعلو وعلى الطرف الآخر ما يقابله.
تنبيه:
العبد لا يتصور أن يكون عليا مطلقا إذ لا ينال درجة إلا ويكون في الوجود ما هو فوقها وهو درجات الأنبياء والملائكة نعم يتصور أن ينال درجة لا يكون في جنس الإنس من يفوقه وهي درجة نبينا محمد ولكنه قاصر بالإضافة إلى العلو المطلق من وجهين أحدهما أنه علو بالإضافة إلى بعض الموجودات والآخر أنه علو بالإضافة إلى الوجود لا بطريق الوجوب بل يقارنه إمكان وجود إنسان فوقه فالعلي المطلق هو الذي له الفوقية لا بالإضافة وبحسب الوجوب لا بحسب الوجود الذي يقارنه إمكان نقيضه.
الكبير هو ذو الكبرياء والكبرياء عبارة عن كمال الذات وأعني بكمال الذات كمال الوجود وكمال الوجود يرجع إلى شيئين: